أجد نفسي ممتنًا للصديق علي العدوي بعد أن انتهيت من قراءة كتاب كان قد رشحه لي. الكتاب هو "اسطنبول الذكريات والمدينة"، أحد أعمال الكاتب التركي أورهان باموق. وهو كتاب عن طفولة وصبا الكاتب وعلاقته بمدينته. نسختي اصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة الجوائز) وقام بالترجمة كل من الدكتورة أماني توما والأستاذ عبد المقصود عبد الكريم. أجد نفسي شاكرًا لصديقي ليس فقط لاستمتاعي بالكتاب والترجمة الجيدة جدًا، ولكن أيضًا لتماس العديد من العبارات مع تجارب شخصية لي. مما دفعني لإعادة كتابة مقتطفات من النص في مدونتي هنا، عل بعضها يكون ملهمًا لآخرين، كما كان لي عُرف كُتاب مثل كونراد ونابوكوف نايبول بهجرتهم بين اللغات والثقافات والبلاد والقارات، وحتى الحضارات. تغذت أخيلتهم على الاغتراب، غذاء لا يأتي عبر الجذور بل عبر اقتلاع الجذور. إلا إن خيالي يتطلب أن أعيش في المدينة نفسها، وفي الشارع نفسه، وفي المنزل نفسه، محدقًا في المنظر نفسه. إن قدَر اسطنبول قدري. وأنا مرتبط بهذه المدينة لأنها جعلتني ما أنا عليه
يقودنا تأمل الذات، ولو مرة واحدة في العمر، إلى فحص ظروف ميلادنا. لماذا ولدنا في هذا الركن من العالم وفي هذا الزمن تحديدًا؟ إن هذه العائلات التي ولدنا فيها، هذه البلاد والمدن التي جعلها القدر من نصيبنا، تتوقع منا الحب، فنحبها في النهاية من أعماق قلوبنا؛ لكن هل كنا نستحق الأفضل؟ تعلمت من هؤلاء الأسلاف أن الإفراط في الإطراءات العاطفية على جمال اسطنبول هو من حق من غادروها للعيش في بلاد أخرى فقط، ولا يخلو ذلك من الإحساس بالذنب؛ لأن الكاتب الذي يتحدث عن خراب المدينة وسوداويتها لا يدرك أبدًا الضوء الخفي الذي يسطع على حياته. إن الانغماس في جماليات المدينة والبوسفور يعني تذكُّر الاختلاف بين الحياة البائسة التي يعيشها المرء وماضي الانتصارات السعيدة أرى أن الشعور بالذنب هو جوهر الدين لم يكن الرب أكثر ما أخافني لكن أولئك الذين غالوا في الإيمان به إننا جميعًا منزعجون، بدرجة ما، مما يعتقده عنا الأجانب والغرباء. لكن إذا كان هذا القلق يؤلمنا أو يعكر علاقتنا بالواقع، ويصبح أكثر أهمية من الواقع ذاته، فهذه مشكلة. إن اهتمامي بكيفية ظهور مدينتي في عيون الغربيين مزعج جدًا، كما هو حال معظم أهل اسطنبول؛ ومثل كل كتاب اسطنبول الآخرين أعاني أحيانًا من الارتباك وعيني على الغرب دائمًا كثيرًا ما أتفق مع المراقبين الغربيين حين يتحدثون بسوء عن المدينة، وأجد متعة في صراحتهم الباردة أكثر مما أجد في الإعجاب المتعاطف الذي يبديه بيير لوتي الذي يتحدث باستمرار عن جمال اسطنبول وغرابتها وتميزها العجيب كانت الجمهورية الجديدة، حين سقطت الإمبراطورية العثمانية، واثقة من هدفها إلا أنها لم تكن واثقة من هويتها تمتعني دائمًا رؤية اسطنبول بعيني أجنبي، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى أن الصورة تساعدني لأنبذ القومية المتعصبة والضغوط التي تشكلها لماذا يجب أن نتوقع من مدينة أن تعالجنا من آلامنا الروحية؟ ربما لأننا لا نستطيع إلا أن نحب مدينتنا مثلما أحببنا عائلتنا. ولكننا يجب علينا أن نقرر أي جزء من المدينة نحبه ولماذا نحبه إذا استوعبتُ للأبد أنه "لا يمكن أن يخرج شيء جيد من مكان مثل هذا"، فلن أندم في حياتي
1 Comment
رحل سمير فريد، فهل من سبيل إلى تقبل الأمر شخصيًا سوى في إطار أنه خطوة على طريق تفهم معنى اليُتم؟ أمد الله في عمر والدَيّ ومتعهما بالصحة. أصبح لدي قدرة أكبر على تفهم معنى الأبوة بعد أن أصبحت أبًا منذ أكثر من ثلاث سنوات. أتفهم الآن الكثير من مواقفهما وأصبح لدي تفسيرات للعديد من ذكريات الطفولة التي ظلت مبهمة لسنوات. لا يوجد تعريفًا جامعًا مانعًا على حد علمي. أقرب ما قرأت عن العلاقة العادلة الصحية بين الأهل والأبناء هي ما كتب جبران خليل جبران في كتابه "النبي"، والذي تُرجم مطلعه إلى العربية في أحد الترجمات ليكون "أولادكم ليسوا أولاداً لكم ، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها" قابلت الأستاذ سمير فريد لأول مرة في عام 2008، في نادي السيارات بوسط البلد في القاهرة. قدمني له المايسترو شريف محيي الدين لأول مرة لأبدأ العمل معه كمنسق لبرنامج السينما في إدارة مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية. كان محيي الدين هو مدير مركز الفنون في هذا الوقت بينما كان فريد هو مستشار المكتبة لشئون السينما والقائم على برنامج العروض السينمائية الشهرية ومطبوعات السينما منذ افتتاح المكتبة عام 2002. في هذه الليلة، قام الأستاذ بتسجيل رقم تليفوني، وأخبرني أنه لا يرد على أرقامًا لا يعرفها عادة. يومها شعرت بقشعريرة. فهمت أنه منذ ذلك اليوم سوف يكون لدي القدرة ببساطة على التواصل بشكل مباشر مع الأستاذ. كان في ذهني عناوين عشرات الكتب ومئات المقالات التي طالعتها وكانت مذيلة بنفس الإسم الذي كنت أسجله في تليفوني في تلك اللحظة. ولكن لم يكن في ذهني هذا الكم الهائل من المشاعر الذي ترجمه جسدي إلى دموعًا منهمرة على مدار أيام مع رحيله. دموعًا اختلطت بتراب مقابر الإمام الشافعي وأنا أودعه مع العشرات من الباكين المحبين يوم الثلاثاء الماضي إن كم المعرفة السينمائية المهول الذي حصلت عليه بشكل مباشر منه، عبر عملنا المشترك في مكتبة الإسكندرية أو عن طريق قراءة كتبه ومقالاته ومشاهدة حواراته الحية والمسجلة، لا يفوقه سوى كم المعرفة الإنسانية العميقة التي انتقلت إليّ عبر مواقفه الشخصية النبيلة معي ومع آخرين. كان صديقًا وأبًا في آن. عايشت معه ترجمة فعلية لنص جبران. كما نهلت دروسًا في فن الحوار والفضول للمعرفة والقدرة على التواصل مع من هم أصغر سنًا وأقل إدراكًا. تمنيت في لحظة أن أستطيع ترجمة علاقته بي إلى علاقتي مع ولديّ. مازجًا بين الحب الغير محدود الذي شملني به أبي الحقيقي على مدار طفولتي ومراهقتي، بحب المعرفة والقدرة على استقراء الواقع الذي علمني إياهما أبي الثاني سمير فريد بعد أن وارَى التراب جسده، وبعد الدعاء، أقبلت أصافح ولده حسن. بصوت متهدج قلت له أن والده كان والدًا لي. فبادرني بأن هذا هو وما قاله بالفعل والده عني قبل ذلك أثناء حواري مع الصديق كريم حنفي بعد الدفن، أخبرني أنه كان يشعر دومًا أن الأستاذ سوف يكون موجودًا دائمًا. حتى أثناء المراحل المتأخرة من المرض، لم يستطع خيال كريم أن يُمهد لغياب الرجل. كان سمير فريد بالنسبة لكريم ولي وللعشرات من صناع الأفلام ومحبي السينما، بمثابة "الظهر". وجوده سند، بغير حتى أن يفعل شيئًا. كنا مطمئنين فقط لأنه موجود هذا رثائي لمن عددته أبًا ثانيًا لي على مدار سنوات عمره التسع الأخيرة. أما حصر الفراغ الذي سوف يتركه على المستوى الثقافي والسينمائي، وذكر ما كتب وحقق من كتب ودراسات ومقالات، فأتركه لكتابة لاحقة لي ربما ولمن هم أكثر تخصصًا مني من الكتاب والمؤرخين الكبار من أصدقاء الأستاذ وغيرهم. أما أنا فأكتفي بحدادي على والدي الذي لم ينجبني، إلى حين نُشر هذا النص بعدد جريدة القاهرة رقم 873 بتاريخ 10 إبريل 2017 |
BlogArchives
July 2023
Categories
All
|